فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة الزلزلة:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالهَا (2) وَقال الإنسان مَا لَهَا (3)}
تعريف بسورة الزلزلة:
هذه السورة مدنية في المصحف وفي بعض الروايات؛ ومكية في بعض الروايات الأخرى. ونحن نرجح الروايات التي تقول بأنها مكية، وأسلوبها التعبيري وموضوعها يؤيدان هذا.
إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة. هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي. وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها؛ فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرأت قصار!
وهذا هو طابع الجزء كله، يتمثل في هذه السورة تمثلا قويا... إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها؟ يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها.
إنه يوم القيامة حيث ترتجف الأرض الثابتة ارتجافا، وتزلزل زلزالا، وتنفض ما في جوفها نفضا، وتخرج ما يثقلها من أجساد ومعادن وغيرها مما حملته طويلا. وكأنها تتخفف من هذه الأثقال، التي حملتها طويلا!
وهو مشهد يهز تحت أقدام المستمعين لهذه السورة كل شيء ثابت؛ ويخيل إليهم أنهم يترنحون ويتأرجحون، والأرض من تحتهم تهتز وتمور! مشهد يخلع القلوب من كل ما تتشبث به من هذه الأرض، وتحسبه ثابتا باقيا؛ وهو الإيحاء الأول لمثل هذه المشاهد التي يصورها القرآن، ويودع فيها حركة تكاد تنتقل إلى أعصاب السامع بمجرد سماع العبارة القرآنية الفريدة!
ويزيد هذا الأثر وضوحا بتصوير {الإنسان} حيال المشهد المعروض، ورسم انفعالاته وهو يشهده:
{وقال الإنسان ما لها.. يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
وهو سؤال المشدوه المبهوت المفجوء، الذي يرى ما لم يعهد، ويواجه ما لا يدرك، ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه والسكوت. مالها؟ ما الذي يزلزلها هكذا ويرجها رجا؟ مالها؟ وكأنه يتمايل على ظهرها ويترنح معها؛ ويحاول أن يمسك بأي شيء يسنده ويثبته، وكل ما حوله يمور مورا شديدا!
و{الإنسان} قد شهد الزلازل والبراكين من قبل. وكان يصاب منها بالهلع والذعر، والهلاك والدمار، ولكنه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبها بينه وبين ما كان يقع من الزلازل والبراكين في الحياة الدنيا. فهذا أمر جديد لا عهد للإنسان به. أمر لا يعرف له سرا، ولا يذكر له نظيرا. أمر هائل يقع للمرة الأولى!
{يومئذ}.. يوم يقع هذا الزلزال ويشده أمامه الإنسان {تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها}.. يومئذ تحدث هذه الأرض أخبارها، وتصف حالها وما جرى لها.. لقد كان ما كان لها {بأن ربك أوحى لها}.. وأمرها أن تمور مورا، وأن تزلزل زلزالها، وأن تخرج أثقالها! فأطاعت أمر ربها {وأذنت لربها وحقت}.. تحدث أخبارها. فهذا الحال حديث واضح عما وراءه من أمر الله ووحيه أليها.. وهنا و{الإنسان} مشدوه مأخوذ، والإيقاع يلهث فزعا ورعبا، ودهشة وعجبا، واضطرابا ومورا.. هنا و{الإنسان} لا يكاد يلتقط أنفاسه وهو يتساءل: مالها مالها؟ هنا يواجه بمشهد الحشر والحساب والوزن والجزاء: {يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}.
وفي لمحة نرى مشهد القيام من القبور: {يومئذ يصدر الناس أشتاتا}.. نرى مشهدهم شتيتا منبعثا من أرجاء الأرض {كأنهم جراد منتشر}.. وهو مشهد لا عهد للإنسان به كذلك من قبل. مشهد الخلائق في أجيالها جميعا تنبعث من هنا ومن هناك: {يوم تشقق الأرض عنهم سراعا}.. وحيثما امتد البصر رأى شبحا ينبعث ثم ينطلق مسرعا! لا يلوي على شيء، ولا ينظر وراءه ولا حواليه: {مهطعين إلى الداع} ممدودة رقابهم، شاخصة أبصارهم.
{لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}.
إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر. هائل مروع. مفزع. مرعب. مذهل... كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئا مما يبلغه إرسال الخيال قليلا يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق!
{يومئذ يصدر الناس أشتاتا}..
{ليروا أعمالهم}.. وهذه أشد وأدهى.. إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم، ليواجهوها، ويواجهوا جزاءها. ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحيانا أقسى من كل جزاء. وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه، ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير. فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد، في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر؟!
إنها عقوبة هائلة رهيبة.. مجرد أن يروا أعمالهم، وأن يواجهوا بما كان منهم!
ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها.
{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره}..
ذرة.. كان المفسرون القدامى يقولون: إنها البعوضة. وكانوا يقولون: إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس... فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة... فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الإسم، وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس، فالهباءة ترى بالعين المجردة. أما الذرة فلا ترى أبدا حتى بأعظم المجاهر في المعامل. إنما هي (رؤيا) في ضمير العلماء! لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره. وكل ما رآه هو آثارها!
فهذه أو ما يشبهها من ثقل، من خير أو شر، تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها!... عندئذ لا يحقر (الإنسان) شيئا من عمله. خيرا كان أو شرا. ولا يقول: هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن. إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله إرتعاشة ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل!
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض.. إلا في القلب المؤمن..
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر... وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر.. ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال.. إنها قلوب عتلة في الأرض، مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب!!. اهـ.

.قال الشنقيطي:

سورة الزلزلة:
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)}
الزلزلة: الحركة الشديدة بسرعة، ويدل لذلك فقه اللغة من وجهين:
الأول: تكرار الخوف، أو ما يقال تكرار المقطع الواحد، مثل صلصل وقلقل وزقزق، فهذا التكرار يدل على الحركة.
والثاني: وزن فعَّل بالتضعيف كغلّق وكسّر وفتح، فقد اجتمع في هذه الكلمة تكرار المقطع وتضعيف الوزن.
ولذا، فإن الزلزال أشد ما شهد العالم من حركة، وقد شوهدت حركات زلزال في أقل من ربع الثانية، فدمر مدنًا وحطم قصورًا. ولذا فقد جاء وصف هذا الزلزال بكونه شيئًا عظيمًا في قوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، ويدل على هذه الشدة تكرار الكلمة في زلزلت وفي زلزلها، كما تشعر به هذه الإضافة.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، إيراد النصوص المبينة لذلك في أول سورة الحج كقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً واحدة} [الحاقة: 14]، وقوله: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجًّا وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} [الواقعة: 4-5]، وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تتبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 6-7]، وساق قوله: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} [الزلزلة: 2].
واختلف في الأثقال ما هي على ثلاثة أقوال:
فقيل: موتاها.
وقيل: كنوزها، وقيل: التحدث بما عمل عليها الإنسان. ولعل الأول أرجح هذه الثلاثة، لأن إخراج كنوزها سيكون قبل النفخة، والتحدث بالأعمال منصوص عليه بذاته، فبس هو الأثقال. ورجحوا القول الأول لقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْواتًا} [المرسلات: 25- 26].
وقالوا: الإنس والجن ثقلان على ظهرها، فهما ثقل عليها، وفي بطنها فهم ثقل فيها، ولذا سميا بالثقلين.
قال الفخر الرازي وابن جرير.
وروي عن ابن عباس: أنه موتاها.
وشبيه بذلك قوله: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 3-4]، ولا يبعد أن يكون الجميع إذا راعينا صيغة الجمع أثقالها، ولم يقل ثقلها وإرادة الجمع مروية أيضًا عن ابن عباس. ذكره الألوسي، وابن جرير عنه وعن مجاهد.
وحكى الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه القولين في إملائه: أي موتاها، وقيل: كنوزها وقوله تعالى: {وَقال الإنسان مَا لَهَا}، لفظ الإنسان هنا عام وظاهره أن كل إنسان يقول ذلك، ولكن جاء ما يدل على أن الذي يقول ذلك هو الكافر. أما المؤمن فيقول: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} [يس: 52] في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قالواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون} [يس: 51-52].
فالكافر يدعو بالويل والمؤمن يطمئن للوعد، ومما يدل على أن الجواب من المؤمنين، لا من الملائكة، كما يقول بعض الناس، ما جاس في آخر السياق قوله: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ} [يس: 53]- أي كلا الفريقين- {لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].
وقوله: {مَا لَهَا} سؤال استيضاح، وذهول من هول ما يشاهد. وقوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}، التحديث هنا صريح في الحديث وهو على حقيقته، لأن في ذلك اليوم تتغير أوضاع كل شيء وتظهر حقائق كل شيء، وكما أنطق الله الجلود ينطق الأرض، فتحدث بأخبارها،
{وَقالواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21]، وتقدم تفصيل ذلك عند أول سورة الحشر، لأن الله أودع في الجمادات القدرة على الإدراك والنطق، والمراد بإخبارها أنها تخبر عن أعمال كل إنسان عليها في حال حياته.
ومما يشهد لهذا المعنى حديث المؤذن «لا يسمع صوته حجر ولا مدر إلا وشهد له يوم القيامة»، وذكر ابن جرير وجهًا آخر، وهو أن إخبارها هو ما أخبرته من أثقالها بوحي الله لها والأول أظهر لأنه يثبت معنى جديدًا. ويشهد له الحديث الصحيح.
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)}
في هاتين الآيتين مبحثان أحدهما في معنى من لعمومه، والآخر في صيغة يعمل.
أما الأول فهو مطروق في جميع كتب التفسير على حد قولهم: من للمعلوم المسلم والكافر، مع أن الكافر لا يرى من عمل الخير شيئًا، لقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُور} [الفرقان: 23]، وفي حق المسلم، قد لا يرى كل ما عمل من شر، لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48].
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذه المسألة بتوسع في دفع إيهام الاضطراب بما يغني عن إيراده.
أما المبحث الثاني فلم أر من تناوله بالبحث، وهو في صيغة يعمل، لأنها صيغة مضارع، وهي للحال والاستقبال.
والمقام في هذا السياق {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} [الزلزلة: 6]، وهو يوم البعث، وليس هناك مجال للعمل، وكان مقتضى السياق أن يقال: فمن عمل مثقال ذرة خيرًا يره. ولكن الصيغة هنا صيغة مضارع، والمقام ليس مقام عمل، ولكن في السياق ما يدل على أن المراد بعمل مثقال ذرة أي من الصنفين ما كان من قبل ذلك، لقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة: 6]، فهم إنما يروا في ذلك اليوم أعمالهم التي علموها من قبل، فتكون صيغة المضارع هنا من باب الالتفات، حيث كان السياق أولًا من أول السورة في معرض الإخبار عن المستقبل: إذا زلزلت الأرض زلزالها، وإذا أخرجت الأرض أثقالها، وإذا قال الإنسان ما لها. في ذلك اليوم الآتي تحدث أخبارها، وفي ذلك اليوم يصدر الناس أشتاتًا ليروا أعمالهم التي عملوها من قبل كما في قوله: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40]، وقوله: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} [الكهف: 49].
ثم جاء الالتفات بمخاطبتهم على سبيل التنبيه والتحذير، فمن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل الآن في الدنيا مثقال ذرة شرًا يره في الآخرة، ومثال الذرة: قيل: هي النملة الصغيرة، لقول الشاعر:
من القاصرات الطرف لو دب محول ** من الذر فوق الإتب منها لأثرا

والإتب: قال في القاموس: الإتب بالكسر، والمئتبة كمكنسة برد يشق، فتلبسه المرأة من غير جيب ولا كمين، وقيل: هي الهباء التي ترى في أشعة الشمس، وكلاهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وسيأتي زيادة إيضاح لكيفية الوزن في سورة القارعة إن شاء الله.
ولعل ذكر الذرة هنا على سبيل المثال لمعرفتهم لصغرها، لأنه تعالى عمم العمل في قوله: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40]، أيا كان هو مثقال ذرة أو مثاقيل القناطير، وقد جاء النص صريحًا بذلك في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقال ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}
[يونس: 61].
وهنا تنبيهان: الأول من ناحية الأصول، وهو أن النص على مثقال الذرة من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، فلا يمنع رؤية مثاقيل الجبال، بل هي أولى وأحرى.
وهذا عند الأصوليين ما يسمى الإلحاق بنفي الفارق، وقد يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به، وقد يكون مساويًا له، فمن الأول هذه الآية وقوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تنهرهُمَا} [الإسراء: 23]، ومن المساوي قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، فإن إحراق ماله وإغراقه ملحق بأكله، بنفي الفارق وهو مساوٍ لأكله في عموم الإتلاف عليه، وهو عند الشافعي ما يمسى القياس في معنى الأصل، أي النص.
التنبيه.
الثاني:
في قوله تعالى: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقال ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السماء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك} [يونس: 61].
رد على بعض المتكلمين في العصر الحاضر، والمسمى بعصر الذرة، إذ قالوا: لقد اعتبر القرآن الذرة أصغر شيء، وأنها لا تقبل التقسيم، كما يقول المناطقة: إنها الجوهر الفرد، الذي لا يقبل الانقسام.
وجاء العلم الحديث، ففتنت الذرة وجعل لها أجزاء. ووجه الرد على تلك المقالة الجديدة، على آيات من كتاب الله هو النص الصريح من مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك إلا في كتاب.
فمعلوم ذلك عند الله ومثبت في كتاب ما هو أصغر من الذرة، ولا حد لهذا الأصغر بأي نسبة كانت، فهو شامل لتفجير الذرة ولأجزائها مهما صغرت تلك الأجزاء.
سبحانك ما أعظم شأنك، وأعظم كتابك، وصدق الله إذ يقول: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. اهـ.